قصة حينما تعوي الذئاب قصة قصيرة الجزء الثاني

 قصة حينما تعوي الذئاب قصة قصيرة الجزء الثاني

أجابت والشفقة تكاد تقتلها:

- أنور اذهب من هنا لا نريد أن نفسد الحفلة بسببك

تغير صوته والذي كان ساخرا قبل قليل ليمتلئ حزنا وهو يجيب:

-لم يا ليلى ترفضينني؟؟ قلت لك مرارا أني سأتغير من أجلك

ابتسمت وهي تقول بنبرة هادئة وحنونة:

-أنور أنت أخي

قال مستنكرا:

-أخوك هو من يشاركك الحالة المدنية وليس أنا، ثم فيما أحسن مني صلاح ؟؟ أجيبي

قلبت عينيها في نفاذ صبر وهي تقول:

-أنور كف عن إزعاجي الآن وإلا أخبرت صلاح بالأمر

شاط أنور غضبا حينما هددته ليلى بأخيه، فلم تشعر به إلا وهو يدفع كؤوس الشاي التي

سبق وأن حضرتها مع سمرا للحفلة..

أبعدت قدمها الحافية بسرعة قبل أن تضربها قطعة زجاجية حادة، وهي تقول في غضب:

-هل جننت؟؟

كان قد أمسكها بعنف من شعرها حينما، صرخ صلاح والذي أسرع نحو المطبخ هو ووالته

التي بدت متعبة جدا وسمرا التي أمسكت بوالدتها كي لا تقع:

-ابتعد عنها أيها السكير..

أرخى قبضته عنها وراحت تبكي على صدر خالتها زهرة التي بدت عاجزة تماما عن

تهدئتها في حين قال أنور بسخرية وهو يصفق:

-أهلا بالنجم والبطل الخارق الذي ينقذ حبيبته من..

لم يستطع أن يتابع كلامه بعدما امسكه صلاح من ياقته وهو يقول من بين أسنانه:

-كف عن تصرفك أيها الحقير

أزاح أنور يد أخيه الذي يصغره بسنتين وهو يقول بنبرة ساخرة كعادته:

-وإن لم أكف ماذا ستصنع؟؟

كانت تلك اللكمة القوية التي أطاحت بأنور على الأرض ردا كافيا له، صرخت والدته

بضعف:

-صلاح؟؟

لم يكن ليجيبها وقتها فقد كان يغلي من الداخل على تصرفات أخيه والتي لا تجلب لهم سوى

العار، أما أنور فقد نهض ببطء من شدة تمكن المخدر من جسده، وهو يمسح تلك الدماء

التي كانت تنزل من شفته السفلى..ليقول مهددا أخاه:

-ستندم أيها الحقير.. فأنت لم تعرف مع من لهوت

هز صلاح رأسه في استخفاف في حين تجاوز أنور والدته بعدما أزاح يديها بعنف عن

قميصه.

سارعت ليلى وسمرا لتنظيف المكان قبل أن تعترف سمرا في حزن:

-لقد كسر كل الكؤوس يا ليلى ما العمل؟؟

أزاحت ليلى التي كانت لا تزال تحت الصدمة بعضا من خصلات شعرها، لتجيب بعد لحظات

من الصمت بخفوت:

-سأذهب للمنزل وأحضر كؤوسا..

ابتسمت لها سمرا بود وهي تقول:

-شكرا لك يا ليلى

وكزتها وهي تجيب:

-لا تقولي ذلك فأنت أختي..

أجابت بخبث:

-تقصدين أخت زوجك المستقبلي

علت ضحكة ليلى وهي تذهب لمنزلها المقابل لمنزل صلاح، ذاك الشاب الذي أحبته منذ أن

كانت في مراهقتها تلتقيه كل صباح حينما كانت تذهب للمدرسة، كان وقتها أنحف من الآن

وأيضا لم يكن بوسامة الآن ولا بقوة الآن، لكنها كانت جد معجبة به، ببساطة لأنه لم يكن

من النوع التافه كأخيه الأكبر والذي ما إن دخل للثانوية حتى التحق بمجموعة من الشباب

أفسدت عقله بالحشيش وهناك إشاعة تقول أنه يستعمل الكوكايين أيضا، وشرب الخمر

والذي لم يطل به الأمر حتى أصبح معروفا لدى كل مراكز الشرطة بالمدينة، لتسجل ضده

عدة محاضر حمل السلاح الأبيض، والسرقة للمحلات التجارية، ناهيك عن التعرض لبنات

المدارس، وإثارة الشغب بالملاعب الرياضية، والعديد منها..

لكنه شأنه شأن أي مخرب بالمدينة يقضي على الأكثر ستة أشهر أو سنة سجنا ليخرج بعد

ذلك أقوى وأعتى من ذي قبل..

أما والدته فقد أنهكها الجري وراءه في السجون، وحمل سلل الأكل له كل أسبوع في

زيارتها، من سجن لسجن حتى خارت قوتها، وتمكن منها المرض فحملت عذابه بقلبها

وجلست في ركن من أركان المنزل الكبير..

لتحكم على ابنتها بالجلوس من الدراسة قبل حتى أن تحصل على الباكلوريا، لتعتني

بها وبالبيت أيضا، وليأخذ صلاح على عاتقه مصروف المنزل، ويتابع دراسته بالجامعة

ورغم أن الراتب الذي يحصل عليه لم يكن ليسد حاجيتهم لكنه على الأقل كان يزيده على

الراتب الذي تركته الدولة لوالدته بعدما توفي والده والذي يقدر بثلاث مئة درهم أو بما

يعادل ثلاثين اورو أو أقل بقليل على راتبه الذي يحصل عليه من عمله كحمال للسلع

القادمة من مختلف الدول والتي بالمناسبة لا يعلم ما هي، لكنه شأنه شأن باقي العمال يسعدهم

الراتب الذي يحصلون عليه كل شهر وهو ما يقدر بألفي درهم أو ما يعادل مائتي أورو

ليصبح المبلغ الإجمالي بما يقدر ألفان وثلاث مائة درهم أو ما يعادل مائتي وثلاثون أورو

طبعا هم ممتنون لأن البيت ملك لوالدتهم أطال الله عمرها، وبالتالي فهم معفون من

طرقات صاحب البيت كل شهر عليهم، غير أنه مضطر لدفع أجرة الكهرباء والماء والتي

تكون عادة براتب والدته، أما راتبه فيشتري به مئونة الشهر، من زيت وسكر وشاي

وقهوة، ومن ضروريات، والتي تستهلك نصف راتبه تقريبا، مع تقشف كبير في الطلبات

أما النصف الآخر فيذهب نصفه أيضا في دواء والدته، والباقي يذخر منه بعض المال

للكوارث المفاجئة، والبعض الآخر يصرفه على جامعته رغم أنه يستلف الدروس من

زملائه بالجامعة..

لم تكن حياتهم بغريبة على الكثيرين الذين يقبعون في ذلك الحي الفقير، فعائلة صلاح

شأنهم شأن الجميع، هناك..يكادون يتصارعون لجلب لقمة العيش.


-ألف مبروك يا صلاح

-شكرا لك خالتي عائشة ..

-ألف مبروك عمو صلاح

انحنى أمام الطفلة الصغيرة وهو يقول:

-شكرا والعقبى لك

ضحكت بطفولة بريئة وهي تجيب:

-لا أنا تعبت من الدراسة بقيت سنة واحدة وأشتغل

استغرب وهو يسألها:

-كم تبلغين يا هند؟؟

ضحكت مرة أخرى وهي تجيب:

-بعد أسبوع سأتم الثامنة

مسح على شعرها وهو يعترف:

-سبحان الله أمس فقط أسرعنا بوالدتك للمستوصف

ضحكت عائشة وهي تجيب:

-العمر يجري يا صلاح لا ينتظرنا أبدا

التفت إليها وهو ينهض ليقول:

-لكن مع ذلك هند لا تزال صغيرة، وعليها متابعة الدراسة

تأملت عائشة طفلتها في حزن وهي تقول وكأنها تبرر بذلك تصرفها:

-ها أنت ترى يا ابني كل شيء على عينك، والدها تركها لي وتزوج أخرى حينما عرف أنها

ابنة أيضا، وليست ولدا كما تمنى دائما، وأنا تعبت من الوقوف في المعمل طوال النهار، لم

تعد لي القدرة ولا الصحة كما كنت في الماضي، ستشتغل هند السنة القادمة بحول الله

لتساعدني هي أيضا على عبئ الزمن..

ابتسم رغما عنه، لا يستطيع أن ينهرها، لأنه يعلم جيدا أنها شأنها شأن الكثيرات هنا

واللواتي إما يعانين من طلاق متعسف، أو تخلي الزوج عن زوجته بسبب عبء المصاريف

وكثرة الأولاد، آو إثقال دين، أو دخول الزوج للسجن بسبب تعاطيه للمخدرات والخمر، أو

المتاجرة فيهما، المهم أنه لكل بيت هنا قصص مؤلمة، تتشابه كثيرا مع اختلافها إلا أنها

تتشابه في ألمها، وحزنها ومعاناتها، وابتساماتها للحياة رغم كل شيء..سأمر على كل بيت

وأخطف لكم منه بعضا من ألمه المعلق على مشجب النسيان، بين كل حين وحين..

عائشة لديها ست بنات تبلغ الكبرى سبع عشر سنة تزوجت السنة الماضية، شابا من الحي

المقابل لحي صلاح، والذي اغتصبها ذات يوم وهي تعود من معمل الخياطة حيث كانت

تشتغل مع والدتها، يقال والله أعلم أنها ذهبت معه بمحض إرادتها، لكني لست متأكدا من

ذلك، هي تقول أرغمني تحت السلاح الأبيض، هذا ما صرحت به لمركز الشرطة، كان

سيحكم عليه بخمس سنوات نافذة، لأن الفتاة تعد قاصرا، لكنه مع تدخل أهله للطلب عنه،

وافقت والدتها عن التنازل شرط أن يتزوجها، ولا يطلقها إلا بعد خمس سنوات، السؤال هنا

والذي تبادر لذهني يومها، أقصد يوم حفل زفاف حميدة والذي أقيم في ساحة الحي حيث

نصبت خيمة كبيرة، وساهم كل الجيران في تجهيز العروس، لازلت أذكر أني ساهمت

أيضا، بمبلغ مائتي درهم لها، وقد كان مبلغا كبيرا بالنسبة لي لكنه الواجب ولا نستطيع أبدا

التخلي عن أحدنا في أي حال من الأحوال، المهم أخبرتكم أنه قد تبادر لذهني سؤال مهم

وهو أنه بدل أن يقضي عقوبة السجن على ما اقترفه، حكمت والدتها عليها أن تقضي هي

تلك الفترة، لتصبح الجاني بعدما كانت المجني عليه، هل فكرت عائشة يومها كيف

ستقضي ابنتها تلك الفترة مع حسن زوجها؟؟

لا اعتقد أنها فكرت أو تخيلت الأمر، فلو كان كذلك لتمنت أن تحمل عار ابنتها طوال عمرها

على أن تدفع بفلذة كبدها إلى لهيب جهنم..

ليظل لها خمس بنات أصغرهن هند، أما الثانية فلم أعد اذكر اسمها جيدا، فأنا لم اعد أراها

منذ سنتين وقد سمعنا أنه لها علاقة مع أحد الشخصيات المهمة ولم تعد ترغب أبدا بالعودة

للحي، والثالثة تشتغل خادمة في أحياء العاصمة الراقية ولا تعود إلا في عطلة نهاية

الأسبوع، وراتبها كما سمعت من والدتي، يذهب لصاحب البيت، لذلك أنا فخور جدا بوالدي

الذي حافظ على بيته وقبل أن يموت كتبه باسم والدتنا، حتى لا نتنازع عليه..

-صلاح؟؟

فتح صلاح ذراعيه لصديقه خالد وهو يعانقه بشدة قائلا:

-كيف حال الذئب؟؟

ابتسم له خالد وهو يقول في خبث:

-الحمد لله أنك لا زلت تتذكرنا ولم تنسنا

وكزه صلاح على كتفه وهو يجيب:

-لا زال علي أن أتحملكم بعض الوقت حتى أشتغل

ضحك خالد بأعلى صوته وهو يقول:

-إذن فأمامك الكثير من الوقت يا صاحبي، "ولفه حول ذراعه القوية وهو يتساءل في

اهتمام"أخبرني يا صلاح كيف هو عملك؟؟

أجاب صلاح وقد بدا القلق عليه:

-بخير لم تسأل؟

حك ذقنه بارتباك وهو يجيب:

-لا شيء يا صديقي لكني أستغرب وبما أنه مجرد حمل للصناديق لم كل هذا التشدد في

اختيار العمال؟؟

قلب صلاح شفته السفلى وهو يجيب:

-لست أدري لكن ما أعرفه أن جميع من يعمل في المخازن هم من اختيار والد ليلى

غمز خالد بعينيه وهو يحكم قبضته حول عنق صلاح مازحا:

-أخبرني أيها الذئب كيف هي أمورك مع السنيورة؟؟

احتقن وجه صلاح بحمرة الغضب وهو يتنصل من صديقه ليقول بنبرة محذرة:

-خالد كم مرة علي أن أحذرك من هذا الموضوع؟؟

علت ضحكة خالد والتي صاحبتها كحة قوية وهو يضرب على صدره قائلا:

-حسنا..حسنا يا صديقي كان مجرد سؤال

أجابه صلاح بنبرته الحازمة:

-ربما إن أعدت مثل هذا السؤال مرة أخرى فعليك أن تنسى هذه الصداقة..

وسبقه ببضع خطوات في حين قال خالد بسخرية:

-كنت اعلم أنه فور نجاحك ستتحجج بشيء حتى تترك صداقتنا..أعرف أيها الذئب لم نعد

على قدر مقامك العالي..

لم يجبه صلاح فخالد ليس له سوى هذه الأسطوانة..

إنه الصديق الوحيد الذي كان لصلاح، والذي لم يستطع أن يتركه لكنه على الأقل لم يكن

يلتقي به كثيرا، فصحبة صلاح تعد نذير شؤم لدى كل أصحاب الحي، حيث لا يستطيع

مشاركتهم أي شيء مما يتعاطونه، وخالد هذا تربى في أحد دور الصفيح بمدينة الدار

البيضاء حيث انتقل من مكان لمكان قبل أن يستقر في حيهم الفقير بسلا وسرعان ما كون

عصابة صغيرة ربما تتكون من سبعة أفراد كأكثر تقدير، لكنها كانت كافية لتثير الرعب في

المدينة الصغيرة، حينما تعرف عليه صلاح كان في نهاية الابتدائية، ولأنه التلميذ النجيب

الوحيد في ذلك الحي فقد كان ملاذ كل متسكع يحب أن يعرض عضلاته المفتولة، ويظهر

قوته، فكم مرة تعرض للضرب وسرقة لكتبه ومحفظته الدراسية، حتى بات الأمر له شبه

عادي، لكن ذلك اليوم وبالضبط حينما كان عائدا من حفل آخر السنة، تعرض إليه أحد

الأطفال الذين من سنه أو أكبر بسنة فقط، لكنهم يجيدون حمل السلاح، أو أي شيء آخر

كالسواطير، والشفرة الحادة والتي تحك بالثوم أو الفلفل الحار حتى إذا ضربك بها الشخص

تجعلك تتشوى بالألم أمامه..وكان أكثر ما يخيف صلاح وقتها هو أن تصيبه ضربة طائشة

إلى وجهه، وتظل كعلامة البلطجة له، ولا أحد يرضى تشغيله بعد ذلك..

لست أدري يومها هل شعرت بالخوف أم أن ذلك هو الشعور الذي قد يشعر به أي شخص

مكاني، حينما تقدم الهادي المعروف "بأبو سكة"لعدم شفقته على أي شخص ولست أدري أي

علاقة بخصاله هذه مع اسمه المهم أني ابتلعت ريقي بصعوبة ويداي ترتعشان خوفا ورعبا

وسمحت لتلك الورقة الصفراء والتي استلمتها كشهادة تقدير على نجاحي وحصولي على

المركز الأول لأن تستقر على إحدى البرك المائية الملوثة بالطين، صوته لا يزال يرن في

أذني للآن وهو يقول:

-هل تعتقد أنك ستنعم بنجاحك يا صلاح؟؟

-وما الذي سيمنعه من ذلك؟؟

التفت الطفل الذي يحمل تلك الشفرة الحادة والتي كنت أعلم أنها ستكون من نصيب خدي

الأيمن والذي كان يواجهه مباشرة:

-أهلا بالذئب كنت امزح معه فقط

أمسكه من ياقته ليرفعه عاليا، وبيد واحدة، ربما قوة اندهشت لها وأنا أتساءل لو كنت بين

يده في إحدى المرات ماذا سيفعل بي؟؟ليقول بصوته المرعب:

-إن سبق وتعرضت له فأقسم أني سأجعلك مأدبة لكلاب الحي..

ابتلعت ريقي وبدل أن يشعرني كلامه بالارتياح أشعرني بالرعب، إذ ما الذي يجعل من

الذئب أن يضحي بأحد رجاله من أجلي؟؟

لم أحتر كثيرا ففور ذهاب "أبو سكة "نظر إلي تلك النظرة والتي لا أنكر أنها ظلت ترعبني

لسنوات طويلة، وهو يقول:

-اسمع أيها المتعلم أريد منك خدمة

فغرت فاه وأنا أتساءل الذئب يريد خدمة مني؟؟

تابع يقول اسمع بإمكانك أن ترفض أو تقبل كما تحب لكن اعلم أنه في الحالتين إن سمعتها

من أحد أو عرفت أنك أفشيت هذا السر "وضحك ضحكة أبانت عن أسنانه الصفراء من

شدة الدخان" لا احتاج أن أخبرك كم يكون لحم البشر لذيذا للكلاب..

هززت رأسي ببطء والخوف يقتلني وأنا أقسم أني سأفعل أي شيء يطلبه مني الذئب مهما

يكون، ربما كان اندفاعا مني وقتها لكن بأي حال كان طلبه جد معقول:

-أريد أن تعلمني القراءة والكتابة

شعرت بالفخر إذ أنه الذئب بطوله وعرضه يطلب مني خدمة كهذه، لكني قلت بهدوء:

-أفعلها أيها الذئب لكن بشرط واحد..

أنهت سمرا وليلى ترتيب الكؤوس التي جلبتها من بيتهم، والتي كانت مخبأة بعناية في

غرفة والدها، والذي يحاول أن يجهز جهازها، وبما أنها ستصبح زوجة صاحب الحفلة فلا

ضير من استعمالهم فصلاح يستحق الأجمل دائما..

طبعا وبما أن أهل الحي يعلمون جيدا أن عائلة صلاح لا يمكنها أن تتكفل بحفلة كبيرة كهذه

من مالها الخاص، فارتأى أن يعد كل بيت شيئا للمناسبة وهكذا سيخف الحمل عليهم جميعا

دخلت عائشة وهي تجر هند معها، حاملة صينية بها ثلاث صحون للحلوى والتي أعدتها

هي أيضا لهذه المناسبة كما تكفل أهل محمد بالمشروبات، وفاطمة العرجاء وهي سيدة

تشتغل في نسيج الزرابي تكفلت بالصور لتكون المأكولات وكل شيء حاضرا على الساعة

السادسة، أما الفرقة الموسيقية فقد تكفل بها خالد.

-تبدين رائعة

ابتسمت بخجل وهي تمد له صحنا صغيرا به قطعة حلوى الكريما والتي أعدتها سمرا

خصيصا لهذه المناسبة السعيدة وهي تقول:

-ألف مبروك مرة أخرى

بدت ابتسامته مشرقة وهو يجيب:

-لن تكتمل فرحتي إلا إذا شرفتي بيتي الصغير وأصبحت زوجة لي

احمرت خجلا وهي تبتعد عنه في حياء لتوزع الحلوى على باقي الضيوف.

كان الجميع يبدو سعيدا للغاية بنجاح صلاح حينما دخل أنور للبيت وهو يترنح في مشيته

ورائحة الخمر تفوح منه، نهض خالد فور رؤيته لأنور وعيونه تتطاير شرا، فلا أحد يجرؤ

في الحي على أن يفسد حفلة يحضرها الذئب، إلا إذا قرر ذلك، وبما أنه ليس في نيته أن

يفسد حفلة صديقه صلاح فلن يسمح لأحد أن يفعلها حتى لو كان أخ صديقه..

زمجر بغضب:

-ماذا تريد يا أنور؟؟

ضحك في استهزاء وهو ينفث سيجارة ملفوفة بالحشيش ليقول:

-كان الأجدر أن تسأل نفسك هذا السؤال

علت الابتسامة وجه خالد وقد توقفت الموسيقى بينما ظل صلاح يراقبهما بصمت شأنه

شأن الجميع من الحاضرين:

-اسمع أعتقد أنه غير مرحب بك هنا فلتذهب حتى تعي ما تقوله بعدها لنا حديث مع بعض

رمى السيجارة على الأرض بعنف وهو يدوسها بأقدامه ليقول:

-إن كنت رجلا فلتخرج إلى الساحة

وأخرج سيفا حادا من حزام سرواله والذي كان يخبئه تحت قميصه، حتى يثبت نيته لخالد

توترت ملامح خالد وهو يرى أنور شاهرا أمامه سيفه بكل وقاحة، وقد شكر الله أنه ولأول

مرة يحضر حفلا وهو بكامل وعيه، وإلا لانقلب الحفل مأتما، أراد احد رجال خالد التدخل

حتى يوقفوا أنور عند حده لكنه أوقفه وهو يقول بسخرية:

-اذهبي يا صغيرتي ستجرحين نفسك وتتألمين..

علت ضحكات الجميع، في حين بدأ أنور يشهر سيفه ويلوح به في الهواء في حركات

سريعة جعلت من النسوة والأطفال الهروب بعيدا عن تلويحه الطائش،لكن أحدا من رجال

خالد أو هو بذاته تحرك من مكانه رغم تلك الحركات البهلوانية التي عرضها عليهم

قد تتساءلون عني، لكن وبصراحة حمدت الله لأني جئت في موقع بعيد عنه، وإلا لكنت

تنحيت عنه، فلازال رغم كل شيء أكثر ما يرعبني ضربة طائشة على وجهي..

حينما أنهى استعراضه صفق له خالد وهو يقول بسخرية:

-كان عرضا شيقا لكننا في غنى عنه الآن وأشار لرجلين من رجاله كي يتكفلوا بإخراجه

بهدوء..

لتستمر بعد ذلك الحفلة وكأن شيئا لم يكن، اقترب منه صلاح وهو يقول له في نبرة صادقة:

-خالد إياك أن تؤذيه يوما؟؟

ضحك خالد وهو يهز رأسه استخفافا ليجيب:

-هل تعتقد أن ذلك الصرصور يقلقني، إن لم تطلب مني يوما أنت أن أنظف فراشه فلن

أفعلها أبدا..

ربت على كتفه في امتنان وهو يقول:

-أعرفك جيدا نعم الصديق..

حك شعره بشكل طفولي وهو يقول:

-أخجلتم تواضعنا..

تغير وجه خالد فجأة وهو يراقب بصمت ذاك الرجل الخمسيني الذي دخل لتوه الحفلة حاملا

كيسا كبيرا من الفواكه، والتي تسلمتها منه ليلى بعدما قبلت يديه في طاعة كاملة، لتسرع

بها إلى المطبخ وتتبعها سمرا.

أسرع نحوه صلاح ليسلم عليه بينما كانت ليلي تسترق السمع إليهما في خفاء، حتى تسمع

حديثهما:

-مرحبا عمي..لم أتعبت نفسك بكل هذا؟ مجيئك في حد ذاته شرف لي

ضحك الرجل وهو يربت على كتف صلاح بحب:

-هذا أقل شيء للمهندس صلاح

قبل يديه في احترام وهو يقول:

-أتمنى من الله أن يمن علي بخيره حتى أعوضك عن كل ما فعلته من أجلنا

ضحك مرة أخرى وهو يشد على كتف صلاح في حنان:

-وهل ينتظر الوالد من ابنه شيئا؟؟

وقبل أن يجيب اقترب خالد من ذلك العجوز وهو يقول بنبرة غريبة:

-أهلا بالعم

تغيرت ملامح والد ليلى وهو يحك ذقنه ليقول:

-لا أذكر أن لأخي ابنا حتى أكون عمه

ضحك خالد وهو يضرب على كتف صديقه الذي بيمينه من شدة الضحك المتواصل ليجيب

بصوت بعد ذلك أكثر رزانة:

-ما تعلمته من الحياة أن العجز نناديهم عمي..

وكزه صلاح في فخده على وقاحته في حين شعرت ليلى بالاهانة وهي تستمع لوقاحة خالد

فعادت للمطبخ لتتابع عملها فالحديث فقد رونقه بالنسبة لها في حين التفت خالد وهو يقول

في استنكار:

-ماذا يا صلاح هل صدقت؟؟إنها عادتنا أنا والعم بشير كلما التقينا

وسارع لمعانقته وهو يقول في مرح:

-كيف حال العجوز؟؟ ألست عجوزا لم تضايقوا؟؟

ضحك البشير وهو يعانق خالد ويربت على كتفه ويقول:

-مازلت أكثر شبابا منك أيها المتحشش

عادت لتطل ليلى مرة أخرى وهي لا تكاد تفهم شيئا، وترى والدها يعانق خالد في حب كبير

ويتمازح معه..ثم التقت عيناها بصلاح الذي ابتسم لها فلم تستطع أن تمنع نفسها من منحه

ابتسامة أخرى..

لتشتغل الموسيقى من جديد وتتعالى الزغاريد فرحا بنجاح صلاح..

العواء الثاني
تخطيط





-صلاح؟؟

التفت صلاح والذي كان يحمل إحدى الصناديق التي وصلتهم هذا الصباح، على متن شاحنة

كبيرة، أنزل الصندوق من على كتفيه، مسح يديه ببنطلونه الجنز الباهت والممزق من جهة

الفخذين، ليسرع نحو عمه البشير الذي لفه بذراعيه حول عنقه وهو يقول بصوته الرزين:

-كيف حالك يا صلاح؟؟

تمتم صلاح بنوع من الرضا والقناعة اللتان كان يتميز بهما وهو يجيب:

-الحمد لله يا عمي بخير

إرسال تعليق

أحدث أقدم